ان الأمر صاعقاً ,والمفاجأة أكبر من أن يحتملها قلب إنسان, لكن هي الحياة نتوقع منها دائماً الأقل بينما لديها الاستعداد أحياناً لتعطينا الأكثر والأكثر. كان صباحاً اعتيادياً بالنسبة لي فقد صحوت كالعادة على رائحة القهوة التي غالباً ما تعدها لي أختي قبل أن أستيقظ, جلست بصحبتها قليلاً نحتسي قهوتنا ونستمع إلى بعض أغنيات الصباح إلى أن حان موعد ذهابي إلى عملي. وكعادتي في الصباحات الباردة خطر لي أن أمشي دون مظلة تقيني مطراً قد يفاجئني.
الشوارع مقفرة خالية من أي حس أو حركة . بينما تكاثفت الغيوم سوداء تحجب الأزرق عن ناظري. ترددت في خطواتي وتلعثمت في مشيتي رغم توقعي لهطول المطر الذي أعشقه. راودتني أحاسيس مختلفة مبهمة, بين رغبة بمواصلة الطريق إلى عملي , ورغبة بالعودة إلى منزلي الدافئ الآمن, ورغبة أخرى بالتوقف في مكاني إلى الأبد!!
وذات شرود, خيمت علي رائحة جعلتني أشعر بنوع من الإغماء,, واقتربت الرائحة أكثر , وازدادت الخيمة العطرية اتساعاً, ومن بعيد لاح لي طيف يدنو مني, يدنو مقارباً كل مالدي من آمال وكل ما يعيش في قلبي من أحلام .
ودنا أكثر فأكثر.. يا الله !! أناشيد شتى عصفت بداخلي ,كلمات كثيرة توقفت عند حنجرتي, وآلاف الحكايا تجمعت في تلافيف عقلي ولكن تجمد لساني , توقف قلبي برهة عن الخفقان وأضاع الدم اتجاهاته في خلاياي.
أية أعجوبة هذه؟ أية دهشة أن تلتقي حلماً ماضياً هكذا وجهاً لوجه ,بعد سنين تفوق الدهر عدداً؟ أيةمعجزة تلك التي تجعلك قادراً على كل شيء وغير قادر على أي شيء في الوقت نفسه؟
صافحت عيني عيناه وسلمت من بعيد ,وما إن أصبح الخيال حقيقة حتى أحسست بأن آلاف السنوات الضوئية تفصلني عن هذا الآخر .
انتابتني رغبات رهيبة . وددت أن أملأ الدنيا صراخاً,أن أهرب , أن أفك بيدي أغلال الماضي, أن أحارب نفسي.. أقتلها , أدوس على قلبي, رغبت أن أذرو ملحاً في عيني كي تعميا , أن أحرق روحي وأنثر رمادها في الطرقات,,أذوب , أتلاشى ,تبتلعني الأرض في عمقها..آه و آه.... كم من الأفكار الجنونية عبرت رأسي في تلك اللحظة؟ هي لحظة واحدة فقط, خلتها مليون عام !!
ليتني لم أولد!!! كانت تلك أمنيتي الوحيدة ..
واقترب... عالماً من الأغنيات كانت عيناه... خيول تصهل وتعدو في حقولهما الفسيحة الخضراء. دنيا من الأنا ,من الهو ومن كل الكائنات . ثم غمرني السلام حين تسلقت نظراته على جسدي وحطت أخيراً في عمق عيني.. ألقى تحية وسألني عن حالي؟؟
ارتبكت , واحترت في الإجابة, أية حال تلك التي يسأل عنها؟؟ ماذا أقول؟
هل أغامر بالبوح فأقص عليه أحزاني التي تستعبدني ؟ أم أقول إن البعد لم يجعل من قلبي إلا صخرة عاتية أكثر لايفتتها سوى سحر نظراته؟؟ هل أحكي آلام السنين أم أطوي ذاتي على ذاتي وأنسى أننا كنا ذات يوم....؟؟
ارتعشت من وطأة الصمت وكان ردي دموعاً لا أدري من أين جاءت!! وشاركتني السماء بكائي, مطراً غزيراً بللني من رأسي حتى قدمي كقطة شاردةتائهة لم تجد سقفاً يحميها.
احتوتني نظراته أكثروهويظلل روحي من البرد, وأحسست الهوة الفاصلة بيننا تتضاءل حتى درجة التلاشي.
اقترب مني أكثر, غمرتني الرائحة التي لم يبدلها مرور السنوات ولم تغيرها وطأة الزمن.
صرخت في داخلي: أريد أن أصحو.. أمطري أيتها السماء أكثر,, أمطري ناراً وأحرقيني إن شئت ولكن دعيني أصحو..أريد أن أصحو ... أن أصحو !!
وكأنه سمع نداء قلبي الغارق في آلامه , مد كلتا يديه ليحتويني _ زجاجة عطر بسحر جديد _ ولكنني انتفضت بصحوة من نوع يشبه الإشراق في فجر يوم دافئ , وشعرت أن ذلك المدى على اتساعه يضيق علينا نحن الاثنين , فإما أن أكون وحدي بدونه أو لا أكون ... قلت باقتضاب أخرس
أسعد الله صباحك , أنا والحمد لله بألف خير.
وواصلت مسيري إلى عملي . جبل من الهموم أزيح عن صدري , وبحر من الأعباء كادت أمواجه تغرقني ابتعد عني .
مشيت ولدي إحساس أنني الآن أنا... جديدة .تنسمت عبق حريتي بعد أن تغلبت على ضآلتي .
جديدة كنت بكل شيء , حتى الدموع مسحتها دون رجعة.
دخلت مكان عملي والابتسامة لأول مرة تعلو وجهي ,,حتى كاد البعض يسألني من أنت؟؟؟